29 - 06 - 2024

إيقاع مختلف | السقوط في بئر سارة

إيقاع مختلف | السقوط في بئر سارة

(أرشيف المشهد)

30-12-2011 | 00:57

بكل البراءة التي اختزنتها في أعماقها، ألقت الفتاة بنفسها على أرض الحجرة، كانت في حال بين التشنج والإغماء، يداها ورجلاها تتحركان في حركات هستيرية، تخرج من فمها الكلمات غائمة غير واضحة الملامح، لكنها كافية لأن نفهم منها معنى واحدا فقط: "لا للحياة ... لا يمكن أن أحياها... ما الذى أعادنى إلى الحياة؟ من الذى فعل بى هذا؟ لابد أن أعود إلى حيث كنت"، وحين تفلح محاولات الطبيب والأم في إعادة بعض وعيها إليها تصرخ هاتفة بهذا المعنى الذى كانت تغمغم به فى وضوح ودون مواربة، ثم تلقى بنفسها ثانية على أرض الغرفة وتتكور على ذاتها وتحتضن ركبتيها بيديها معلنة أنها عائدة إلى حيث كانت، والكل من حولها عاجزون عن استعادتها رغم كل محاولات طبيبها فى التشبث بها لإعادتها إلى الحياة، أو إعادة الحياة إليها.

  من ممن شاهدوا مسلسل (سارة) يستطيع أن ينسى هذا المشهد الأخير الذى أوجع القلوب وأدمع الأعين وأعجز العقول عن البحث عن مخرج بديل.

هذا المشهد بكل تفاصيله هو ما يلح على ذهنى الآن وأنا أتأمل اللحظة الحالية من المشهد الثورى المصرى وأتساءل: ما أثمن ما يمكن أن يضيع من بين أيدينا اليوم؟

كثيرة هى الأشياء التى يمكن أن نفقدها فى هذه اللحظة الفارقة، لكن أثمن ما يمكن أن يضيع منا هى تلك اللحظة المتوهجة التى كان الشعب المصرى قد قبض عليها بيديه الاثنتين وظل محتفظا بها لأشهر عديدة، هذه اللحظة التى كسرت حالة الاكتئاب القومى المصرى التى استمرت لعقود ثقيلة.

نعم هذا الشعب الذى كان قد أعطى ظهره للحياة السياسية كلها، بل وأوشك على أن يعطى ظهره للحياة ذاتها على مدى سنوات ثقيلة كئيبة، وجد فى اللحظة الثورية، الممتدة على مدى ثمانى عشرة ليلة، وهجا إنسانيا أعاده إلى ذاته أو أعاد إليه ذاته، لم يكسر جدار الخوف فحسب، بل كسر معه جدرا كثيرة، أهمها جدار الاكتئاب القومى الذى عزله عن حياة الوطن بكل تفاصيله، وربما كانت إجابة السؤال (النكتة) الذى شاع فى سنوات ما قبل الثورة تعبيرا صادقا عن هذه الحالة: "هل تعرف أكبر جالية أجنبية تعيش فى مصر؟ نعم إنها الجالية المصرية"، كانت الإجابة صادقة بقدر ما هى صادمة وجارحة.

لذلك فإننا لابد أن نهتف بأولئك الذين يمارسون اللعبة السياسية اليوم باعتبارها لعبة سياسية: القضية أكبر من الألعاب بكثير، الأمر لا يتعلق بمن يربح هنا ومن يخسر هناك، الرهان ليس على قدر أكبر من المكاسب أو قدر أقل من الخسائر، القضية تتعلق بلحظة التوهج الوطنى والإنسانى والاجتماعى التى أشرقت فى سماء مصر وقبض المصريون عليها بأيديهم واثقين أنهم استعادوا الوطن فاستعادهم الوطن أيضا.

وأكبر المخاوف التى تطل بوجهها القبيح اليوم يتعلق بأن يصاب الشعب المصرى بلون من الردة، أو النكوص، وهى حالة إذا وقعت -لا قدر الله- فلن تكفى عقود قليلة للإفلات منها من جديد، لأنها ببساطة ستحمل معها لونا من الكفر بالوطن، وبالوطنية، وبالثورة، من حيث هى ثورة، بحيث يستقر معنى اللاجدوى فى أعماق الشخصية المصرية هناك، فى تلك المنطقة التى لا تصل إليها دعوات المخلصين ولا محاولات الحالمين.

نعم أكبر المخاوف أن يصنع الشعب المصرى ما صنعت (سارة) حين رأت أنه لا مفر من الانعزال عن الحياة من جديد، ولا جدوى من الانغماس فى الحياة أو المشاركة فيها، فيسقط هو أيضا فى الانعزال الوطنى والاكتئاب القومى من جديد.

اتقوا الله فى مصر، اتقوا الله فى الشعب المصرى، اتقوا الله فى مستقبل مصر.

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان